عصر إيران - الحياة - سلطان البازعي - عماد ورنا زوجان شابان من طبقة متوسطة، الزوج يدرّس مادة الدراما لطلاب مدرسة ثانوية وفي الوقت ذاته ممثل في فرقة مسرحية تعمل فيها زوجته الممثلة أيضاً. يتعرض الزوجان الشابان لحادثة تقلب حياتهما رأساً على عقب، فالمبنى الذي يقيمان فيه تعرض لخلل في أساساته، ما جعله خطراً وآيلاً إلى السقوط وغير قابل للسكنى، فيضطر السكان، بمن فيهم الزوجان، إلى مغادرته بسرعة وفي منتصف الليل، وينقذهما زميل في الفرقة المسرحية بإرشادهما إلى شقة في سطح بناية سكنية جاهزة للتأجير، فيضطران إلى الانتقال إليها، على رغم أن الساكنة السابقة في هذه الشقة تركتها على عجل، مخلفة وراءها كثيراً من ملابسها ومتعلقاتها الشخصية، ولم تنفّذ وعدها بالقدوم لأخذها. قبل الزوجان هذا الوضع الغريب، وبمساعدة زميلهما، الذي يعرف الساكنة القديمة -كما يبدو- جمعا ملابسها وأشياءها الحميمة في صناديق ملأت ممرات الشقة وجزءاً من السطح الخارجي.
الزوجان لم يعرفا، ولم يقل لهما زميلهما، أن تلك السيدة كانت «سيئة السمعة»، وأنها كانت تستقبل في بيتها كثيراً من طلاب المتعة الغرباء، لم يعرفا هذه التفاصيل المزعجة إلا بوقوع الكارثة، فالزوجة التي عادت إلى البيت قبل زوجها كانت تستعد للاستحمام حين سمعت جرس الباب الخارجي للعمارة، ومن جهاز الاتصال فتحت الباب معتقدة أن زوجها هو من حضر، ثم تركت باب الشقة مفتوحاً، ودخلت الحمام.
عاد الزوج ليجد زوجته مغمى عليها بالحمام ومضرجة بالدماء مع إصابة بليغة في الرأس، وفي المستشفى سمع من الجيران بعض التفاصيل، التي وضعته في طريق البحث عن المعتدي، للانتقام منه، وبدأ بجمع الأدلة بنفسه من المكان من آثار الأقدام الملطخة بالدماء خارج الشقة، وعلى الدرج، إلى مفاتيح سيارة ومبلغ مالي وجدهما داخل الشقة، وبالتتبع الدقيق والمضني وصل إلى الجاني.
هذا هو ملخص الفيلم الإيراني «البائع» (فروشنده) بالفارسية للمخرج أصغر فرهادي، الذي حاز جائزة «أوسكار» لأفضل فيلم أجنبي عام 2016، وجوائز أخرى كثيرة، إضافة إلى إشادات متعددة من نقاد السينما العالميين، ووصفه موقع «يورونيوز» بالتحفة السينمائية، كما قال عنه إن «السيناريو كتب بعناية لتجنب الرقابة، بما يتيح لنا الفرصة للتأمل والتحليل».
وعنوان الفيلم «البائع» لا علاقة مباشرة له بأحداث الفيلم، إلا من حيث أن الفرقة المسرحية التي يعمل فيها الزوجان تعمل على إنتاج مسرحية «موت بائع متجول» للكاتب الأميركي آرثر ميلر، وفي بروفات المسرحية وعرضها الأول يضع المخرج بعض الإسقاطات التي تتسق مع موضوعه.
والفيلم، الذي صور في طهران بالكامل، لا يقدم أي رسائل سياسية فجة ومباشرة، إنْ مع النظام أو ضده، إلا من خلال إشارات بسيطة تتمثل بعدم لجوء الزوجين إلى الشرطة للتحقيق في الحادثة، وفي النقاش الذي يدور بين أعضاء الفرقة المسرحية عن زيارات فرق الرقابة لحذف أو تعديل مشاهد من العرض المسرحي، كما لم يناقش الفيلم موضوع القيود المفروضة من المؤسسة الدينية الحاكمة، إلا بكونه لم يسمح بظهور أي سيدة من دون الحجاب، ولو كانت في بيتها.
وأصدقكم القول إن مشاهدتي الأولى للفيلم لم تركز على الحبكة الدرامية، على رغم جمالها وإنسانيتها، ولم أسع إلى البحث عن الرسائل الخفية والظاهرة التي وضعها المخرج، بل لعلي لم ألتفت كثيراً إلى الأداء المميز لممثلي الفيلم، ومنهم البطلان ترانة علي دوستي وشهاب حسيني، لقد أجلت ذلك كله للمشاهدة الثانية، إذ كنت مأخوذاً بتتبع تفاصيل الحياة اليومية والمعيشية لسكان طهران، وللإنسان في الداخل الإيراني، الذي لا نعرف عنه كثيراً.
صحيح أنني عرفت كثيراً من الإيرانيين، وكونت صداقات مع بعضهم، لكنهم كانوا إما معارضين ناقمين على النظام، وهؤلاء كثر ويقيمون في الغرب، وإما ممثلين للنظام يتكلمون بلسانه وينطقون بلغته، ومن هذه الفئة الأخيرة مشاركون في مؤتمر إسلامي للعلاقات العامة التقيتهم في كوالالمبور. وبطبيعة الحال، فإن الصورة لم تكتمل عندي، على رغم قناعتي التي لا تتزحزح بأن السمات الإنسانية واحدة عند الجميع، سواء أكان ذلك في طهران أم تل أبيب أم في جبال الهملايا أم في أدغال أفريقيا، والفروق تتمحور غالباً في مستوى الوعي ومدى سماكة القشرة السياسية الثقافية، وهل هذه القشرة طاردة أم مستوعبة.
الذي يعنينا هنا هو أن السينما الإيرانية ذات حضور قوي على مستوى العالم، ووصولها إلى «أوسكار» يؤكد هذا الحضور وهذا القبول، وهي بالتأكيد ليست سينما «بروباغندا» خالصة، وإلا لما فتحت لها الأبواب وفرشت لها السجادات الحمراء، ولهذه السينما تاريخ عريق. والنتيجة الواضحة أنها –أي السينما– أصبحت من أهم عناصر القوة الناعمة، إن لم تكن الوحيدة على الإطلاق. وشاهدي على ذلك أن كم المشاعر الإيجابية التي تولدت لدي عن الإنسان الإيراني زادت بدرجة ملحوظة بعد مشاهدة الفيلم.
أسوق هذا النموذج ليفهم معارضو فكرة السينما وتشجيع قيام صناعة سينمائية سعودية، سواء المؤدلجون منهم أم الذين يعتقدون بعدم جدواها، لأسباب كثيرة، أنهم مخطئون، لكن توفيق الله جعل قائداً شاباً مثل الأمير محمد بن سلمان يتجاوز مثل هذه الأفكار العقيمة، ويتخذ خطوات عملية بالاتجاه الصحيح، لم يكن السماح بافتتاح دور السينما إلا بدايتها. ذلك أن زيارته غير التقليدية لهوليوود ولقاءه أقطاب صناعة السينما يعني أننا سنكون قريباً جداً على شاشات العالم، نروي حكايتنا، ونحطم الأطر البالية التي غلّفت صورتنا عقوداً طويلة من الزمن.
ولإعادة التأطير قصة أخرى، ربما نتناولها قريباً.