عصر إيران - يكاد المتأمل لتاريخ الدولة السعودية خلال فترة ١٩٣٢-٢٠١٨ يستنتج بوضوح أن أحد الأركان الأربعة التي قامت عليها السياسات المعلنة لهذه الدولة، كان هو تبني فكرة الصراع مع الجارة الشرقية الكبيرة والبناء المتواصل على توظيف واستثمار عنصريْ الاختلاف الكبيرين معها.
ويتم ذلك التوظيف والاستثمار من حيث القومية (بوضع العربي بكل تاريخه في مواجهة مع الفارسي بكل تاريخه) ومن حيث المذهب (بوضع السني بكل استحقاقاته في مواجهة الشيعي بكل مخاطره).
ورغم أن هذا الخلاف تأجج أكثرمن مرة ووصل إلى أكثر من ذروة؛ فإن أيا من هذه الذرى لم تصل إلى مشارف الحرب بين الدولتين أبدا، وأصبح العهد بالمواجهات السعودية الإيرانية بعيدا ومنتميا إلى حقبة ما قبل ظهور البترول في المنطقة.
على هذا النحو كانت الدول الكبرى -وفي مقدمتها أميركا والاتحاد السوفياتي- قد توافقت على وضع مثالي لكل منهما، وقد مكنهما هذا الوضع من إيداع ملف ذلك النزاع الإقليمي في أيدٍ قادرة على كبح المغامرة، مع الاحتفاظ بخميرة الخلاف حية ونائمة معا: أي قابلة للاستدعاء في الوقت ذاته.
"العرب ارتضوا ما ارتضاه العالم، وأن العالم ارتضى ما ارتضاه العرب، بيد أن التاريخ يذكر بالمواكبة لهذا أن سياسيا عربيا وحيدا هو الرئيس العراقي صدام حسين كان أول من كسر قاعدة البسترة السياسية "
ومن الطريف -الذي لا طريف فيه (والطريف في معناها اللغوي تعني الجديد)- أن العرب ارتضوا ما ارتضاه العالم، وأن العالم ارتضى ما ارتضاه العرب، بيد أن التاريخ يذكر بالمواكبة لهذا أن سياسيا عربيا وحيدا هو الرئيس العراقي صدام حسين كان أول من كسر قاعدة البسترة السياسية (والبسترة السياسية هنا تعني كما في البيولوجيا: تكرار عملية التجميد من بعد التصعيد).
فقد حرك الرئيس صدام الأمور بسرعة بالغة في اتجاه مواجهة عسكرية؛ وهي مواجهة بدت مرهقة وانتهت مرهقة، رغم أنها بدأت مفعمة بالحماسة والأمل في انتصار سريع.
نجح الرئيس صدام في كسر البسترة السياسية بهذه الحرب، لأنه كان -بفضل الثروة وعوامل أخرى- قد أصبح متمكنا من أدوات التحريض إلى حد قطع خط الرجعة على منْ لا يستجيب لتحريضه؛ ومن ثم فقد كان هو الوحيد الذي نجح في أن يوظف الدولة السعودية للوقوف العلني في صفه تحت دعوى القيام بالدور العربي في هذا الصراع.
واستنامت المملكة الكبيرة حينها للقول بحتمية دعمها له باعتباره حارس البوابة الشرقية كما صوره وسماه الإعلام الخليجي وقتها. ومع هذا؛ فإنه -مع مرور الوقت وتوالي السنوات- فإن السعودية (شأنها شأن دول خليجية أخرى) قبضت يدها عن معاونة الرئيس صدام بالقدر الذي كان يراه هو كافيا لعونه، ثم ازداد قبض اليد ليتحول إلى الحد الذي كان كفيلا بإثارة حنقه.
ومع هذا الشعور بخيبة الأمل عند الرئيس صدام؛ فإن القيادة السعودية -كعادتها في إشاعة الغموض المريح والساحر وبذل الوعود الطيبة والمبتسمة- ظلت تمد له حبال الأمل في التجاوب التام مع أطروحاته، ولم تسمح لعبارات الحسم الرافضة لبعض جزئيات منطقه بأن تتطرق إلى صياغات خطط التعاون المالي المستقبلية.
وذلك على نحو ما فعلت الكويت التي استدعت غضبه وتمترسه، ليبدأ سيناريو حرب الخليج الثانية بضوء أخضر من جهات أميركية إن لم يكن من أميركا بكيانها الأعلى كله.
ومن عجائب القدر أن هذه الحرب جاءت لتضرب بعمق جوهر الصياغة السعودية للصراع العربي الإيراني، الذي هو أحد مقومات الوجود السعودي بما يتمتع به من بنية متضخمة وثرية، وهكذا بدأ نقض جوهر الفكرة السعودية في الصراع بما حدث بالفعل من تحييد هذا العدو التقليدي الذي هو إيران.
فقد وقف هذا العدو بعيدا تماما تاركا للعرب مهمة تمزيق أنفسهم بأنفسهم في تلك المعركة، التي عُرفت إستراتيجياً بأنها كانت لتحرير الكويت وتأمين السعودية بالمواكبة مع تحرير الكويت، ثم أصبحت الآن -بعد أكثر من ربع قرن- بمثابة معركة لتأمين السعودية بتحرير الكويت.
لكن التاريخ -لسوء حظ العرب- كان يدخر ما هو أكثر مناقضة للتنظير والتفكير بل والتأطير، ذلك أن الآثار الكارثية لغزو صدام للكويت لم تقف عند حدود خراب الدنيا، بل انتقلت إلى عبث حادٍّ في تطبيقات العقيدة التي كانت السعودية تعطيها مكانة القمة في مشروعها السياسي معتزة بأنها بلاد التوحيد.
"التاريخ -لسوء حظ العرب- كان يدخر ما هو أكثر مناقضة للتنظير والتفكير بل والتأطير، ذلك أن الآثار الكارثية لغزو صدام للكويت لم تقف عند حدود خراب الدنيا، بل انتقلت إلى عبث حادٍّ في تطبيقات العقيدة التي كانت السعودية تعطيها مكانة القمة في مشروعها السياسي "
ولأسباب شبه عملية وشبه حقيقية (لم يكن لها طابع الاضطرار الملحّ ولا المتصاعد)؛ فإن بعض الأجنحة المؤثرة في منظومة الحكم السعودية رحّبت بنشأة الفكرة الجامية التي عُرفت فيما بعد بهذا الاسم، وذلك في إطار الحشد المعنوي لمعركة وشيكة وواسعة الميدان، لم يكن أحد ممن خاضوها يتوقع أن تنتهي بالسرعة الخاطفة التي انتهت بها.
لم تكن خطورة الفكرة الجامية مقتصرة على التبرير الذي قدمته ولا محصورة فيه، فقد كان التبرير قابلا للانتهاء بانتهاء الأزمة مما يدخل به تبعا للمصطلح الفقهي تحت باب "وقائع الأعيان"، أو ما يسمى في علوم الرياضة بالتمرين المشهور الذي يستند بالطبع إلى قاعدة لكنه لا يؤسس بنفسه وفي حد ذاته قاعدة.
لكن خطورة الفكرة الجامية الحقيقية (ومن بعدها الفكرة المدخلية والتشويهات الرسلانية... وهلم جراًّ) كمنت -ولا تزال تكمن- في التأسيس الذي قدمته، ووطّأته لفكرة التقديم التدريجي والمتواصل لمقاصد السياسة على مقاصد الفقه.
وقد انتهى الحال بهذه العملية الفكرية -التي هي من العمليات الكفيلة بالتتابع (لأنها ممارسة أوتوماتيكية الطابع)- إلى نشأة (أو بزوغ) ما سماه كاتب هذه السطور مبدأ فقاهة ولي الأمر، وذلك في موازاة كانت متوقعة ولا بد منها للتوازن مع الفكرة أو العقيدة القائلة بولاية الفقيه التي أصبحت تاريخيا تمثل الإنجاز الفقهي الأكبر للإمام الخوميني.
وهكذا أصبحت موازين القوى في الدولتين الكبريين على جانبيْ الخليج تنحصر في فكرتيْ ولاية الفقيه وفقاهة الولي، وهما فكرتان تبدوان متناقضتين بينما هما تسجيلان طباعيان متشابهان لظلٍّ واحد مع اختلاف المنظور والمستور. وباختصار بلاغي شديد؛ فإن ما يُعرف بفن السلويت إذا صور الفكرتين أنتج لهما نفس الصورة دون أدنى اختلاف.
إذا استوعبنا هذا المآل الفكري فإنه سيصبح من السهل علينا فهم ما آل إليه الحال الواقعي الذي ظلت فيه المملكة العربية السعودية مطالبة نفسها (ولنفسها) بنوع ما من القيادة الخليجية، باعتبارها القوة العربية الكبيرة بين دول شبه الجزيرة العربية، أو بين من يُطلقون عليهم أعضاء مجلس التعاون الخليجي بعد استبعاد اليمن وتنحية العراق والأردن.
وهنا نواجه بالملاحظة الأولى التي يدلنا عليه ظرف شرطي واضح: ذلك أنه لما كانت للقيادة (أية قيادة) تبعات فإن السعودية آثرت (دون أن يكون إيثارها هذا نوعا من الحكمة) أن تستدعي لهذه التبعات ما ينصرها في اختلافاتها الواردة مع شقيقاتها، لا ما يجعلها تلتزم باحترام التنوع والتباين والاجتهاد والرأي المخالف.
ومن سوء حظ العقلية التخطيطية السعودية (الذي بدا لها وكأنه حسن حظ) أن دول الخليج كانت قد تغاضت كثيرا (بل على الدوام) عما كان الخطاب السياسي السعودي يحفل به -على سبيل المثال- من اعتقاد عميق بأن المملكة تنفرد وحدها بعقيدة التوحيد السليمة.
وشيئا فشيئا كانت الأجيال الجديدة في مؤسسات الحكم السعودية تمارس نوعا من الاستعداء غير المبرر -أو من الاستعلاء غير الحكيم- تجاه الآخر مهما كان، لكن معظم مظاهر هذا السلوك انحصرت في الغرف المغلقة والأحاديث الجانبية مع غياب المواجهة.
"من سوء حظ العقلية التخطيطية السعودية (الذي بدا لها وكأنه حسن حظ) أن دول الخليج كانت قد تغاضت كثيرا (بل على الدوام) عما كان الخطاب السياسي السعودي يحفل به -على سبيل المثال- من اعتقاد عميق بأن المملكة تنفرد وحدها بعقيدة التوحيد السليمة"
فلما انتشرت وسائل التواصل الاجتماعي والفضائيات، وانطبعت مخرجات هذه الوسائل وتطبعت بدخائل النفس البشرية؛ تجاوز الأمر حدود الصوت المكبوت إلى الصراخ المكلوم دفعة واحدة وكان هذا طبيعيا، لكن رد الفعل السعودي هو الذي كان غير طبيعي بالمرة.
فقد صدّر الإعلام السعودي -بسرعة بالغة- فكرةً محوريةً كان جوهرها أن من ينتقد أي سلوك سعودي يدخل إلى محيط التجديف في العقيدة الإسلامية نفسها، التي صُوّرت -عبر منطق قافز- وكأنها قد استحوذت عليها بلاد التوحيد!
وفي مقابل هذا الجمود الفكري؛ كان الأداء السياسي ينجز لكنه ينجز بالسلب. فقد بدت المملكة -في السنوات الأخيرة لحكم الملك عبد الله- في ردود أفعالها وتحالفاتها وكأنها تلعب لصالح إيران ولا نقول تلعب معها أو في فريقها، ولا نقول أيضا تتحالف معها، لكننا لا نستطيع أن ننكر أن إيران أحرزت أهدافا متوالية في المواجهات (ولا نقول الصراعات) مع المحيط العربي.
ولا نستطيع أيضا أن ننكر أن كل هذه الأهداف (ولا نقول معظمها) التي أحرزتها إيران جاءت بفضل تمريرات خاطئة أنجزتها حكومة الملك عبد الله بسعادة في بعض الأحيان، وباعتزاز وانتشاء وفخر لا تزال نبراته حية، ولا تزال نغماته معزوفة. وخذ -على سبيل المثال- قصة صعود الحوثيين والدور السعودي الجوهري فيها.
وهكذا تحالفت عوامل متعددة ومتفرقة -بل ومتناثرة ومتناقضة- لتصيب الاستثمار السعودي في الصراع العربي الإيراني بالاحتضار الطويل، الذي لا يفهمه المتابعون من البسطاء والمتحذلقين إلا على أنه نهاية.
المصدر: الجزيرة